الفكر الإسلامي

الإنسان كما يراه الإسلام والقرآن

 

بقلم : الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى

 

 

(1)

       نزل الإسلام ليكون رحمة للعالمين ، ودينًا للبشر كافة ، وشريعة تقود الإنسان إلى مستواه الرفيع من السمو الروحي والنفسي والخلقي، وقد اختار الله – عز وجل – رسول الإسلام محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي وابن مكة المكرمة ، من بين الخلق جميعًا ليبلِّغ الناس رسالة الله إله واحد .

       إنسان خلقه الله ليعبده وحده، وليرتفع بنفسه إلى مستوى الخليفة لله في الأرض، يعمرها، وينشر فيها الحب والخير والرحمة والسلام وصدق الله العظيم: ﴿وَمَا اَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـٰـلَمِيْنَ﴾ الأنبيا – آية: 107 .

       لا إله إلا الله، ولا رب سواه، ولا معبود غيره. القوي في ميزان الإسلام هو المؤمن الكامل، هو المسلم الخاضع لمشيئة الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد .

       ولأن الإنسان هو اللبنة الأولى في مجتمع الإسلام والمسلمين، فقد دعاه الله – عز وجل – ورسوله الكريم وكتابه الحكيم القرآن الكريم، إلى طهارة الروح، وطهارة النفس، وطهارة الوجدان، وطهارة الخلق، وطهارة المنشأ، فلا زنا ولابغاء، ولا تعارف للرجل بالمرأة إلا على أساس عقد إلهي معظم يباركه الله، وملائكته ورسوله وكتابه، وينشأ الأبناء على تعاليم كريمة طاهرة من الأخلاق القويمة والفضائل الإنسانية الرحيمة والآداب الشريفة الرفيعة؛ وتحيا الأسرة في ظلال مبادئ سامية طاهرة لا تعرف إلا الخير والعدل والرحمة والسلام.

       الإنسان في الإسلام هو جوهر الشريعة وهو حقيقة الناموس، وهو المقصود الأول لدين الله وشريعته، ولتعاليم رسوله، ولمبادئ القرآن الكريم.

       الإنسان في الإسلام مكفول الحرية، مصون النفس والمال والعرض، محاط بالكرامة والرعاية في السلام والحرب، لامنطق للقوة في الإسلام بل للخير والعدل والرحمة والعناية من كل فرد في مجتمع المسلمين حاكمًا أو محكومًا .

       نعم .. الإنسان هو الجوهر، وهو الذي أخذ الإسلام بيده ليرفعه إلى مستوى الهداية للعالم، والريادة للخلق .

       في السلام يجتمع المسلمون على الصفاء والإخاء وتكافؤ الفرص وتوازن الحقوق والواجبات، فلا تُضَارُّ نفسٌ بأذى. حقوقه محفوظة حتى وهو في ميدان المعركة، فلا مَثُلة ولا تدمير ولا تخريب، ولا قطع لشجرة، ولاتجريف لأرض، ولا تدمير لمسكن، ولا إذلال لأسير، ولا تجويع لمهزوم، الإنسان موضع رعاية الإسلام: طفلاً وصبيًا وشابًا ورجلاً وكهلاً وشيخًا هرمًا، ذكرًا أو انثى، عبدًا أو حرًا، حيًا أو ميتًا، ينهى الإسلام المسلمين عن أن يمثلوا بأعدائهم القتلى في المعركة، تُحَاطُ أجسادُهم بالكرامة، وبالرعاية وبالمحافظة حتى تُدْفَنَ في مدافن يحوطها الدعاء والعظة والعبرة.

(2)

       حقًا إن الإنسان في الإسلام هو موضع الرعاية والتكريم والعناية، وقد ورد ذكر لفظ الإنسان ومشتقاته في القرآن الكريم في أكثر من مائتي موضع محاطاً بمزيد من التكريم والاهتمام. ورعاية الإنسان الرعاية الكاملة هي جوهرالتشاريع، وناموس الدين، وحقيقة دعوة الإسلام، الأخلاق وسمو النفس وطهارة الروح لابد أن تلازم المسلم في كل لحظة من لحظات حياته، رئيسًا أو مرؤوسًا،حاكمًا أو محكومًا، كبيرًا أو صغيرًا، حتى ليُعْرَفُ بها المسلمُ في كل مجال وكل فكر وكل عمل، وقد وصف رسول الله بأنه «يصل الرحم، ويصدق الحديث، ويحمل الكل، ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق»، ويقف جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي في هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة، ليعرف بالإسلام فيقول للنجاشي: «نحن كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فبعث الله إلينا منا من نعرف فيه صدقه وأمانته، وعفافه، دعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والبغاء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا به».

       وأين هذه المبادئ من الدعوات التي تدعو إلى دين خاص بأتباعه وحدهم يبيح لمعتنقيه أن يقتلوا من عاداهم من الناس وأن يسرقوهم وينهبوا أموالهم ويهتكوا أعراضهم، ولا يدعوهم إلى رحمة أو عدل أو سلام؛ وقد جاء السيد المسيح عيسى عليه السلام رسولاً إلى قومه ليكمل الناموس لا لينقصه، فدعا أتباعه إلى الحب والسلام والإنسانية مما نشر ناموس عيسى عليه السلام في الأرض، ويجيء الإسلام ورسوله وكتابه دعوة عامة للبشرية جمعاء، على الإخاء والمساواة والسلام.. يخاطب القرآن الكريم المسلمين بـ ﴿يا أيها الناس﴾ في ثمان وعشرين موضعًا كما خاطب الإنسان وتحدث عنه في مائتين وتسعة وأربعين موضعًا، ولفظ الإنسان يتكرر في القرآن الكريم في كل سورة وفي العديد من آياته، وفي المأثور عن رسول الله فيما ورد في بعض المصادر «يا أيها الناس، إنكم كنتم في جهالة وضلالة عمياء، كنتم تثنون ركبكم أمام اللات والعزى وتعفرون جباهكم على أقدامها، فاتجهوا الآن إلى السماء واسموا بنفوسكم إلى العلا، وترفعوا عن مواضع الذلة، واذكروا ما في نفسوكم، وفكروا في خلق السموات والأرض.

(3)

       والقرآن، دستور الإسلام المحكم العلوي تناول المجتمع وأقام الحرية حفظاً لحقوق الإنسان وأساسًا متينًا لها ، وأيد حق المساواة القانونية الطبيعي، ولم يلغ الفوارق الفردية لذا فإن حكومة الشورى بعيدة كل البعد عن جميع أنواع الحكومات المعيبة التي تجافي حرية المواطن، لا تقيدها إلا مصلحة المجموع، إن حكومة الشورى حكومة الفطرة السليمة، لا مقام فيها للنزوات، ولا للمحسوبية، ولا للأثرة، ولا استغلال فيها للإثراء الفردي، أو التنكيل بالخصم الشخصي ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ المائدة: آية 48.

       حكومة الشورى لاتقر مقامًا مرموقًا، ولا امتيازًا خاصًا في المجتمع لفرد أو لطبقة، إلا بمقدار ما يسدي من عمل المصلحة المجموع، وسعادة المجتمع، وتلك هي التقوى بالمعنى الواسع ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات: آية 13، ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثـَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ الكهف: آية 46.

       وفي حكومة الشورى مساواة في الحقوق والواجبات والعقوبة لقطع دابر الجريمة. فإن محمدًا وهو نبي الرحمة الكريم – غضب أشد الغضب – وهو العطوف الحليم – حين تشبثوا إليه أن يعفوا عن السارقة المخزومية ، وقال قولته الشهيرة: «إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها».

       وبحسب الإنسان قول الله تعالى في كتابه الحكيم ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ الإسراء: آية 70.

(4)

        ما أجل وما أكرم وما أعظم مبادئ الإسلام، مبادئ أساسها العدل والإحسان: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ القُرْبـٰـى وَيَنْهـٰـى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ﴾ النحل : آية 90.

       وحدة عامة ، وإخاء شامل، ومساواة كاملة، وفرص متساوية أمام الجميع، لافضل لعربي على أعجمي، ولا فضل لأعجمي على عربي إلا بالتقوى.. ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات: آية 13.

       لقد أحاط الإسلام الإنسان بكل الضمانات اللازمة للحفاظ على كرامته وعلى نفسه وعرضه وماله، لايمس هذه الكرامة أحد، حاكمًا أو محكومًا إلا بحق الله .

       والمجتمع الإنساني في الإسلام لابد أن يسوده التعاون والتعارف والسلام والأخوة: ﴿يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَّ أُنْثـٰـى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَقَبَائِلَ لَتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ﴾ الحجرات: آية 13 .

       وتحقيقًا لتعارف الشعوب وجدنا في القرن العاشر الميلادي ملك بريطانيا يرسل وفدًا من بنات الأشراف الإنجليز مكونًا من ثماني عشرة فتاة إلى الأندلس برئاسة بنت أخته الأميرة «دوبونت» ورافق هذا الوفد موظف كبير في القصر الملكي هو «سيف ديك» للدراسة في جامعات قرطبة. وحمل الوفد رسالة من الملك البريطاني إلى الخليفة الأموي في الأندلس «هشام» جاء فيها: «لقد سمعنا عن التقدم العظيم الذي تتمتع به معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا بأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا» : وجاء في رد الخليفة «هشام السادس» آخر خلفاء بني أمية في الأندلس على هذه الرسالة : «لقد اطلعت على التماسك فوافقت على طلبكم بعد استشارة من يعنيهم الأمر».

       هكذا عرف المسلمون كيف يعملون لنشر الرقي والنهضة والتقدم في كل مكان من العالم مدفوعين بتعاليم دينهم الحنيف وكتابهم الحكيم، القرآن الكريم، لايفرقون بين مسلم وغير مسلم، ولا بين شرقي وغربي .. فالجميع أخوة في الإنسانية يسودهم السلام .

(5)

       وإذا كان «كيبلينج» Kepling يتزعم العداء بين الشرق والغرب ويردد : الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا، فإن حضارة الغرب وهي حضارة مسيحية، إنما قامت على السلام الذي دعا إليه المسيح عيسى عليه السلام وهو رجل شرقي من فلسطين: الإسلام حضارة يعيش فيها النصارى واليهود كأحد روافدها، وبجوارهم العرب والعجم والروم والهنود والصينيون والآسيويون والأفارقة والغربيون والأمريكيون وغيرهم، إخوة في الله وفي الإنسانية، يحميهم الإسلام ويدافع عن حقوقهم كتاب الله الكريم القرآن الحكيم.

       لم يدعُ في يوم من الأيام أحد من المسلمين إلى الخصومة بين أبناء العالم بزعم أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يتلاقيا.

       إن ادعاء الخصومة بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب لا يدل على شيء إلا على التنكر لدعوة السلام التي نادى بها محمد ونادى بها المسيح عليه السلام .

       وآراء «صمويل هنتنيجتون» في صدام الحضارات الذي أفرز ضرورة الصدام بين الإسلام والغرب ، هي أراء وهمية ليس عليها دليل من التاريخ .

(6)

       ومن تمام تكريم الإسلام للإنسان أن سما بمحمد رسولنا الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – إلى السماء في رحلة الإسراء والمعراج ليشرف بالمثول بين يدي الخالق الأعظم ليتلقى الأمر بالصلاة فرضًا على كل مسلم بعبد الله في الأرض، ويقول شاعر الإسلام «محمد إقبال» في خطاب بجمعية الشبان المسلمين في القاهرة في ديسمبر 1931: «إن المعراج في الإسلام دلالة على إقامة الصلة بين الأرض والسماء ، فمحمد الإنسان يستطيع أن يذهب في مراقي التسامي والنقاء والقدوة الروحية إلى أعلى الغايات وهو بهذا يمثل الناس جميعًا، ويقول لهم إني لست سوى المثل الذي يُحْتَذٰى ، والأسوة التي تُحَاكىٰ ، فليس حتمًا أن تصلوا إلى ما وصلت إليه ، ولكن باب الصعود مفتوح، والسماء ليست بعيدة عن الأرض، ولكنها تبدو كذلك للضعفاء الذين تعوزهم الثقة بالنفس والثقة بالعقيدة التي أقاموا عليها حياتهم»؛ وصدق إقبال، فإن هذا التكريم لمحمد رسولنا الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – هو تكريم للإنسان في كل مكان وزمان، للإنسان الذي يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا، والذي يتجه في خشوع بقلبه إلى الخالق المهيمن الأعظم يُطْلَبُ منه القبول .

       وهكذا نجد الإنسان في الإسلام وفي القرآن دستور الإسلام محاطاً بكل رعاية مكفول الحقوق في كل مكان ، محظيًا بالعناية في كل مجال.

       الحياة الإنسانية والإنسان هي كلها ثوابت أحاطها الإسلام برعايته الشاملة ، وأنبثقت عن هذه الرعاية حقوق الإنسان في الإسلام ، التي كفلها ديننا العظيم للبشر جميعًا ، ولكل أفراد المجتمع الإسلامي والمجتمع العالمي كافة ؛ مما يجعلنا نقول في صدق وقوة: إن الإسلام دين عالمي ، للبشر جميعًا، وللإنسان أيًا كان الإنسان، من أجل تكريم خليفة الله في الأرض وسليل ذرية آدم عليه السلام ونوع عليه السلام وإبراهيم عليه السلام، وإسماعيل عليه السلام وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام ومحمد ، ولهم وللإنسان في الأرض من الله الجزاء الأوفى .

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.